تخوفات فلسطينية
هناك تخوفان فلسطينيان رئيسيان من الانضمام للمحكمة:
الأول، هو أن تتم ملاحقة بعض المقاومين الفلسطينيين بدعوى ارتكابهم جرائم. ذلك أن المحكمة لن تختص فقط بالأعمال أو الجرائم التي تقوم بها اسرائيل، وإنما بمجمل المخالفات كما تراها المحكمة وليس كما نراها نحن الفلسطينيون. بمعنى أنه قد نكون من ناحية وطنية-سياسية متعاطفين مع المقاومين في قصف المناطق الإسرائيلية، سواء كانت مدنية أو عسكرية، ولكن هذا قد يكون وفقاً للمحكمة مسألة قد ترقى إلى جريمة أو مخالفة للقانون الدولي الإنساني. وبالتالي يتحول إلى جريمة حرب أو جريمة ضد الانسانية، وتكون فيها المحكمة مختصة بملاحقة الفلسطينيين. لذلك يجب أن نفكر ملياً في هذا الموضوع إذا أردنا بالفعل أن ننضم الى المحكمة، من جهة أن نتوقف عن استهداف المدنيين بشكل كامل، وحصر المقاومة المسلحة على استهداف العسكريين فقط، إضافة إلى ابتكار وسائل جديدة للمقاومة.
أما التخوف الثاني، فيأخذ طابع سياسي؛ بمعنى أن السلطة الوطنية الفلسطينية تخشى من ردة الفعل الأمريكية والأوروبية، وبالذات ردة الفعل الأميركية، بسبب انضمام فلسطين لميثاق روما، لأن الولايات المتحدة معارضة أصلا لوجود المحكمة الجنائية الدولية من حيث المبدأ، وهي معارضة بشكل محدد انضمام فلسطين لها. وهناك ضغوط واضحة وفقا للمقال الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرا، أشير فيه بشكل واضح أن هناك ضغوط غربية، أوروبية وأمريكية وكندية، على السلطة الوطنية الفلسطينية. تشمل التهديدات التلويح بقطع المساعدات المالية، وعدم الاعتراف بفلسطين.
بالتالي علي فلسطين أن تفكر بشكل واضح، وإن كنت أميل إلى أن الانضمام إلى المحكمة سيشكل أداة ضغط سياسية بالدرجة الأولى خاصة بالجرائم المستمرة مثل جريمة الاستيطان. كما سيشكل وسيلة لقمع أو منع أو وقاية فلسطينيين من جرائم أخرى قد ترتكبها إسرائيل في المستقبل أكثر من المحاكمات الفعلية.
التردد الفلسطيني
بتقديري أن المشكلة الرئيسة في كل هذا الموضوع هي التردد الفلسطيني في التوجه للمحكمة؛ ففي عام 2009، كان التوجه واضحا وصريحا بطلب إعطاء المحكمة الاختصاص وفقاً للمادة (12) فقرة (3) من نظام روما التي تنيط بالمحكمة صلاحية النظر في القضايا منذ 1 تموز 2002.أما التوجه الجديد الآن، فلم يكن واضحاً، لأن الحكومة الفسطينية أو الدولة الفلسطينية لم تقدم طلبا بشكل صريح للمحكمة وإنما اتجهت نحو وزير العدل وممثل النيابة العامة في قطاع غزة. وهذا يطرح السؤال التالي: هل توجد إرادة حقيقية للفلسطينيين للتوجه للمحكمة؟ ولو كانت حقيقية فلماذا لا يتوجه الرئيس؟ فالرئيس هو من طلب الانضمام للاتفاقيات في نيسان 2014. وقد كان بإمكانه بكل بساطة إما أن يوقع على ميثاق روما وتنضم فلسطين بشكل رسمي، وفقا لقواعد الانضمام، أو أن يتم الإعلان بشكل صريح من قبل الرئيس وفقاً للمادة (12) فقرة (3) أو أن ينضم مع الإعلان الأخير.ولكن أخذنا بإتجاه غريب ويثير مجموعة من التساؤلات: أولاً، أنه لم يوجه أصلا بشكل مباشر من وزير العدل، وإنما من خلال محامي فرنسي. وقد اطلعت على ملف الدعوى التي قدمها المحامي الفرنسي "جيل ديفير" للمحكمة (39 صفحة)، ولم يكن هناك وضوح ما هو المطلوب بالضبط من المحكمة: هل هو تجديد الطلب الذي قدمه وزير العدل الأسبق (د. علي خشان) للمحكمة عام 2009؟ أم هو طلب جديد وفقا للمادة (12) فقرة (3)؟ ولم يحدد أيضاً التاريخ: هل ستنظر المحكمة في الاختصاص منذ 1 تموز 2002؟ وهل يمكن أيضاً (فلسطين لم تكن دولة في ذلك الوقت) هل يمكن للمحكمة أن تبدأ التحقيق من شهر تموز 2002؟ أم ستبدأ من 29 تشرين ثاني 2012 (عندما حازت فلسطين على صفة الدولة)؟
بتقديري من مجمل هذا التردد الفلسطيني قد يكون هناك رد، وأخشى أن يكون هناك رد سلبي، من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة أن الفصائل تتداول الآن هل سننضم أم لا ننضم. فهناك أيضاً تشكيك فلسطيني داخلي، هل نحن منضمين أم لا.
يجب أن يكون لدى الفلسطينيين (القيادة والفصائل الفلسطينية) توجه واضح متفق عليه، هل نريد اختصاص المحكمة بأثر رجعي أم نريد أثر فوري ومستقبلي؟ في ضوء ما سيترتب على ذلك من آثار وتبعات؛ فإذا طلبنا بأثر رجعي، أي منذ تموز 2002 معنى ذلك محاسبة الفلسطينيين عن العمليات التفجيرية واستهداف الحافلات والمطاعم داخل إسرائيل. كل هذه المواضيع سيكون فيها تحقيق، فهل نحن مستعدون لمواجهة هذه النتائج أم لا؟ مع ذلك، ربما المحكمة ترجع سريانها بأثر رجعي إلى تاريخ تحقيق فلسطين لصفة الدولة، 29 تشرين الثاني 2012، وبالتالي يخرج من النطاق الزمني العمليات التفجيرية التي حدثت جميعها قبل ذلك.
بحكم عملي السابق في مكاتب الأمم المتحدة بجنيف وبيروت ورام الله وغيرها من مناطق العالم، أقول أنه بالإمكان ملاحقة إسرائيل من قبل المقررين الخاصين في الأمم المتحدة، وتقديم شكاوى بخصوص انتهاكات لبعض الأحكام، مثل اتفاقية التعذيب، اتفاقية المرأة، واتفاقية الطفل، وأيضاً من خلال تقديم التقارير للجان الأمم المتحدة. ولكن جميع ذلك لا يؤدي تأثير حقيقي على أرض الواقع دون اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية؛ فالاتفاقيات بحد ذاتها لن تؤثر بشكل ملموس، وإن قد يكون لها تاثيرات من الناحية الرسمية، بمعنى تقديم تقارير للامم المتحدة، تقارير وفقا لاتفاقيات حقوق الإنسان مثلا، دعوة الدول الأطراف فياتفاقية جنيف الرابعة للانعقاد، كما يمكن اللجوء لمحكمة العدل الدولية في بعض المسائل مثل الطلب من المحكمة تحديد ما إذا كان هناك إبادة جماعية في فلسطين. كل هذه الوسائل مهمة نظريا وقد تكون مهمة رسمياً، ولكن على أرض الواقع لن يكون لها بتقديري أهمية دون اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.
مكاسب سياسية لفلسطين
بانضمامها للمحكمة الجنائية الدولية، قد تستفيد فلسطين من الناحية السياسية من خلال ثلاثة طرق:
أولا- بعد أن تصبح فلسطين طرفا في المحكمة وترتكب إسرائيل جرائم حرب في الضفة أو غزة، سيتم توجيه أوامر إلقاء القبض على المجرمين الإسرائيليين من قبل المحكمة والتي يمكن لها أن توجه أوامر القبض من خلال منظمة الشرطة الجنائية الدولية، الإنتربول. والإنتربول بدوره قد يرسل مذكرات الاعتقال لأجهزة الشرطة في كافة دول العالم، خاصة الدول الأطراف في ميثاق روما من أجل القبض على المتهمين. هذا يعني فعليا أن مجرمي الحرب الإسرائليين سيكونوا ملاحقين ولن يستطيعوا السفر إلى 122 دولة في العالم ليتجنوا جلبهم إلى المحكمة، بما في ذلك معظم الدول الأوروبية التي يرتبط بها الإسرائيليون بروابط اقتصادية واجتماعية وثقافية وثيقة، خاصة وأن أغلبية كبيرة من الإسرائيليين هم مهاجرون يحملون جنسيات دولة أوروبية. هذا الأمر يشكل ضغطا سياسيا على إسرائيل مما يدفعها لتجنب ارتكاب المزيد من الجرائم.
ثانيا- وفقا لميثاق روما يمكن لمجلس الأمن، بقرار يتخذه بناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أن يطلب من المحكمة الجنائية الدولية أن تؤجل النظر في قضية ما مدة سنة قابلة للتجديد. لذلك يمكن لفلسطين أن تستخدم القضايا التي ترفع ضد إسرائيل للتفاوض عليها من أجل الحصول على مكاسب سياسية (مثل إطلاق سراح معتقلين، تفكيك مستوطنات، عودة لاجئين، انسحاب من أراضي معينة) مقابل تأجيل أو إسقاط قضايا معينة من قبل المجلس. ولحسن الحظ أن لفلسطين أصدقاء في مجلس الأمن، مثل روسيا والصين، الذين سيمنعون المجلس من تأجيل أو إسقاط قضايا دون موافقة الجهة المعنية وهي فلسطين. من هنا سنجعل إسرائيل تفاوض على قضايا وتهم تفصيلية قد تجبرها في النهاية على الانسحاب من دولة فلسطين المحتلة. فعلى سبيل المثال، فقط بعد الحرب على غزة عام 2008-2009، تم تقديم أكثر من 400 قضية (شكوى) فيها تهم جرائم حرب ضد إسرائيل.
ثالثا- الانضمام إلى المحكمة سيكسب فلسطين المزيد من الاستقلال والسيادة على المستوى الدولي.
من الواضح مما سبق أن فوائد انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية تفوق بكثير التخوفات الموهومة. فيمكن أن نكحل أعيننا برؤية مجرمين كبار، أمثال نتانياهو وليبرمان ويعلون وغينس، خلف القضبان في لاهاي قريبا. دعونا نأمل أن تبادر الحكومة الفلسطينية للانضمام إلى ميثاق روما كما وعدت ودون إبطاء. كما أن الحجة المتمثلة بالتخوف من ملاحقة المحكمة لمقاومين هي في غير مكانها كون جل الجرائم المرتكبة في الحرب الأخيرة قامت بها إسرائيل. وأن ما قامت به المقاومة كان دفاعا مشروعا عن النفس ولم يتضمن هجمات ضد أهداف مدنية، وذلك كما تبين من الإحصائيات التي قدمتها إسرائيل عن الخسائر في الأرواح التي منيت بها وهي كلها من جنود.
خلاصة
أخيرا، من الضروري لنا كفلسطينيين الانضمام الفوري للمحكمة الجنائية الدولية مهما كان الثمن. حتى لو كان الثمن غاليا، فإن المكاسب لفلسطين ستكون أكبر من الخسائر. يكفي أننا سنحمي شعبنا من المزيد من الجرائم وسنواجه الاستيطان مواجهة جدية وسنساهم في إنصاف الضحايا وعائلاتهم. هذا حق للفلسطينيين وليس مخالفة ولا يمكن، أخلاقيا، لدول تدعي سيادة القانون وحقوق الإنسان أن تعاقبنا لأننا اخترنا مسارا قضائيا لاسترجاع حقوقنا.التوجه للمحكمة الجنائية، وللقانون والقضاء الدوليين عموما، يحتاج إلى جيش من المتخصصين الفلسطينيين والمساندين الآخرين لكي تتابع الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية ولكي ندافع عن الضحايا ونرد على الطرف الآخر بمهنية واحتراف. هذا يتطلب رصد الميزانيات الكافية وتجهيز وتدريب الكوادر الفلسطينية والتي يمكن إيجادها إن وجدت الإرادة السياسية. هذا يتطلب حتما استراتيجية وطنية.